Dataset Viewer
text
stringlengths 3
743k
| meta
dict |
---|---|
أمستردمسكي، ستيفان (تطور العلم) مجلة ديوجين، ع٣٢، فبراير ١٩٧٦م. بول فيتي، الأيديولوجية في رأي ماركس ونيتشة/ديوجين، ع ٤٣، نوفمبر ١٩٧٨م. ريدنيك، ما هي ميكانيكا الكم؟ دار مير، موسكو، ١٩٧١م. شیخاوات فيرندرا، بعض الاتجاهات الإبستمولوجية في فلسفة العلم، ديوجين، ع٧٢، ١٩٨٩م.
|
{
"chapter": "قائمة المصادر والمراجع",
"dataset_name": "hindawi",
"title": "على طريق توماس كون: رؤية نقدية لفلسفة تاريخ العلم في ضوء نظرية توماس كون",
"url": "https://www.hindawi.org/books/84942494/15/"
}
|
ما إن يقترب فصل الربيع بشمسه الدافئة، وخُضرته الواسعة، وأزهاره الكثيرة، حتى ترَوني أطير قريبًا منكم، منتقلًا من زهرة إلى أخرى، فرحةً مسرورةً وسط هذه الطبيعة الخلَّابة التي يزيدها جمالًا ضحكاتكم البريئة، وصيحاتكم العذبة، وأنتم تتراكضون خلفي محاولين الإمساك بي، وأجدها فرصةً سعيدةً للمرح معكم. أُناور في حركاتي تارةً لليمين وتارةً لليسار، وتارةً أرتفع عاليًا كلما اقتربتم مني، وتارةً أخفِّف من سرعة طيراني وارتفاعي؛ لأبقى أطير على مقربة منكم في الحدائق والبساتين على ارتفاعاتٍ منخفضة، قريبًا من أزهار النباتات التي أحطُّ عليها أمتصُّ رحيقها، أو أضع بيوضي على أوراقها. تشاهدوني كثيرًا على مدار العام من شهر شباط، وحتى شهر تشرين الثاني، فأنا من أكثر أنواع الفراشات شيوعًا وانتشارًا في كثير من بلدان العالم. أتواجد في السهول، والحقول والمروج، وفي القرى، والضواحي، وحدائق المدن، وأمتاز بقدرة فائقة على الطيران. أحببتُ من النباتات العائلةَ الصليبية التي تضمُّ الملفوفَ والقرنبيط واللِّفت والكُرُنب والفُجل والخَردَل والجرجير والشوندر؛ ولذلك ارتبط اسمي بأسماء هذه النباتات. اختارت لي أمي نبات الملفوف لتضع بيوضها الصفراء المنتظمة على الوجه السفلي لورقاته الغضة، في مجموعات يتراوح عدد البيوض فيها من ٢٠ إلى ١٠٠ بيضة. وما إن يمر من أربعة إلى ثمانية أيام حتى تفقس هذه البيوض عن يرقات صغيرة جائعة، ذات لون أخضر، يستر جسمها جلد ناعم، تغطِّيه في منطقة الظَّهر خطوط صفراء مستمرِّة، أو متقطِّعة، مع بُقَع سوداء. تخرج يرقاتي هذه من البيوض، وتروح تتسابق في الْتهام تلك الأوراق الطرية اللذيذة بشهية. تزداد شهية اليرقات للغذاء مع تقدُّمها في العمر، حيث تتغذَّى على الوجه السفلي للورقة خلال الأسبوع الأول، ثم تنتقل إلى الوجه الثاني للورقة في الأسبوع الثاني. ومع نمو جسمها وازدياد تغذيتها يتم القضاء على أوراق النبات المضيف فلا يبقى منها إلا تفرُّعاتها. وتمتَد أضرار اليرقات يومًا بعد آخر على النبات كلِّه من خلال الثقوب العديدة التي تُحدثها في رأس الملفوف، والفضلات التي تتركها داخله، وما يؤدِّيه ذلك إلى نمو الفطريات عليه، وتعفُّنه، وتلف المحصول، وعدم صلاحيته لاستهلاك البشر، الأمر الذي يؤدِّي إلى نقمة المزارعين علينا، واعتبارنا آفةً اقتصادية تدمِّر المحاصيل. فتراهم يستخدمون المُبيدات من السموم الكيميائية، والعضوية. يرشُّون بها أوراق النباتات التي تتغذَّى عليها اليرقات، فتنتقل مع الغذاء إلى جهازها الهضمي، مؤدِّيةً إلى تسمُّمها، أو تنتقل بالملامسة إلى جهازها العصبي، مؤدِّيةً إلى شللها وموتها. أو يُطلقون أعداءنا الحيوية، حيث يضعونها على النباتات التي تتغذَّى عليها اليرقات، فتتطفَّل عليها، أو تضع بيوضها داخلها، وعندما تفقس بيوض الطفيل تخرج يرقاته فتتغذَّى على يرقاتنا. لم يكن قصد اليرقات إتلاف المحصول؛ فقد وضعتها أمها الفراشة على أوراق تلك النباتات لتتغذَّى عليها، فينمو جسمها ويكبر ليصل طوله ٢سم، وخلال فترة النمو هذه يتسلَّخ جلدها خمس مرات خلال طورها اليرقي الذي يستمر قرابة ١٨ يومًا. ثم تدخل في طَور العذراء، والذي قد يستمرُّ في سُباتٍ طول فصل الشتاء حتى الربيع القادم؛ حيث تخرج من طَور العذراء فراشة بيضاء جميلة تطير في الحقول وتتابع دورة حياتها في التزاوج ووضع البيوض على نباتاتها المفضَّلة. أمَّا في الجو الحار فبعد ٣٠–٤٥ يومًا من فقس البيوض، تتحوَّل اليرقات إلى فراشاتٍ فتيةً ذات أجنحة بيضاء رائعة جميلة تساعدها على الطيران بجواركم، فتلاعبكم، وتلهو معكم، وتجلب لكم البهجة والسرور، وتزيد الطبيعة جمالًا على جمال. يدعونني الفراشة البيضاء الكبيرة؛ حيث يبلغ طولي بحدود ٦ سنتيمترات، تمييزًا لي عن فراشة أخرى تشبهني ولكنها أصغر حجمًا. تُزين أجنحتَنا نحن الفراشات الإناث بقعتان كبيرتان ذات لون أسود. تُميِّزنا عن إخوتنا الذكور؛ حيث تكون أجنحتهم بيضاء بدون تلك البقع السوداء. نمتاز عن غيرنا من الفراشات بصفات مميزة لعشيرتنا؛ فقرون الاستشعار لدينا صولجانية، وأجنحتنا تتوضَّع بشكل عمودي على الجسم حين الراحة والتوقُّف فترةً طويلة، وننشط في ساعات النهار، والعذارى لدينا عارية، وألوانها زاهية، أمَّا يرقاتنا فيصل طولها إلى ٤ سنتيمترات. ولدينا في السنة ثلاثة أجيال، مدة كل منها ٣٠–٤٠ يومًا، وقد تزيد عن ذلك أو تنقص حسب مكان إقامتنا، وظروف المناخ السائدة فيه، ووفرة الغذاء، ومناسبة الأجواء. وقبل أن أغادركم أصدقائي الأطفال أُذكِّركم بنفسي؛ أنا صديقتكم الفراشة البيضاء. أجمل فراشات الكوكب وأكثرها انتشارًا. تسمياتي عديدة؛ فأنا أبو دقيق الملفوف، وأنا الفراشة البيضاء الكبيرة، وفراشة الكرنب البيضاء كبيرة الحجم. أنتمي إلى فصيلة أبو الدقيق الأبيض في رتيبة صولجانيات القرون، وتحت رتبة أبي الدقيقات في رتبة حرشفيات الأجنحة التي تحتوي ٧٦ جنسًا و١١٠٠ نوع من صف الحشرات، شعبة مفصليات الأرجل، وينتهي نسَبي إلى مملكة الحيوان.
|
{
"chapter": "فراشة الملفوف الكبيرة",
"dataset_name": "hindawi",
"title": "فراشة الملفوف الكبيرة",
"url": "https://www.hindawi.org/books/38591395/1/"
}
|
مع أنَّ مارجريت كانت شبهَ فاقدةٍ للوعي، استمعَت لوقع أقدام الرجال الأربعة الثابتة وهم يبتعدون سريعًا. كانت الطبيعة كلُّها ساكنةً جدًّا لدرجة أن مارجريت استطاعت، وهي ممدَّدةٌ وأذنها قريبةٌ من الأرض، أن تتتبَّع خطواتهم وهم ينعطفون أخيرًا إلى الطريق، وسرعان ما أخبرها الصدى الخافتُ لقعقعة عجَلات العربة القديمة، والمشية العَرجاء للحصان الهزيل بأن عدوَّها صار على بُعد ربع فرسخٍ منها. لم تعرف كم مضى عليها وهي مُمدَّدةٌ هناك. كانت قد فقدَت إحساسها بالوقت، ورفعت نظرها بشكلٍ حالمٍ إلى السماء المضاءة بالقمر، واستمعَت إلى صوت الأمواج الرتيب. كانت رائحة البحر المنعِشةُ رحيقًا لجسدها المنهَك، وكان الفضاء الفسيح للجروف المنعزلة صامتًا وخياليًّا كالحلم. لم يكن عقلُها واعيًا إلا بعذابه المتواصِل بعدم اليقين الذي لا يُطاق. لم تكن تدري! … لم تكن تدري ما إن كان بيرسي الآن، في هذه اللحظة بالضبط، واقعًا في قبضة جنود الجمهورية يُكابد تهكُّمَ عدوِّه اللدود وسخريتَه، كما كابدَتْهما هي. ومن ناحيةٍ أخرى، لم تكن تدري ما إن كانت جثةُ أرماند الهامدةُ ممدَّدةً هناك، في الكوخ، في حين أن بيرسي قد هرَب، فقط ليسمع أن يدَي زوجته قد وجَّهَتا كلابَ التَّعَقُّب البشرية إلى قتل أرماند وأصدقائه. كان الألم الجسديُّ الناتجُ عن هذا الإرهاق التامِّ شديدًا جدًّا، لدرجة أنها تمنَّت من أعماق قلبها أن ينام جسدُها المتعَب إلى الأبد، بعد كل تلك الاضطرابات والانفعالات والمَكايد في الأيام القليلة الأخيرة؛ هنا تحت تلك السماء الصافية، بين ثنايا صوت البحر، ونسيمُ الخريف العليل يهمس لها تهويدةً أخيرة. كان المكان كلُّه خاويًا جدًّا، وصامتًا جدًّا، مثل أرض الأحلام. حتى آخِر صدًى خافتٍ للعربة البعيدة كان قد تلاشى منذ وقتٍ طويل. وفجأةً … كُسِر الصمتُ الكئيب المخيِّم على الشاطئ بصوت … أغرب صوتٍ سمِعَته هذه الجروف المنعزلة في فرنسا على الإطلاق بلا ريب. صوتٌ غريبٌ جدًّا لدرجة أن النسيم الرقيق توقَّف عن الهمهمة، والحصى الصغير توقفَ عن التدحرج أسفل المنحدر! غريبٌ جدًّا لدرجة أن مارجريت، مع أنها كانت منهَكةً ومجهدة، ظنَّت أن حالةَ فقدان الوعي المفيدة التي تسبق الموتَ كانت تُخادع حواسَّها شبهَ النائمة بحيلةٍ غريبة محيرة. كان صوتًا قال «اللعنة!» بنطقٍ سليم مُتَمَاسِك وإنجليزيٍّ تمامًا. استيقظَت النَّوارس في أعشاشها ونظرَت حولها بدهشة؛ وأطلقَت بومةٌ بعيدةٌ وحيدةٌ نَعيقًا في منتصف الليل، وعبَسَت الجروفُ الشاهقة بعظمةٍ مَهيبة تجاه هذا اللفظِ النابي الغريب الذي يُدنِّس حرمتَها لأول مرَّة. لم تَثِق مارجريت بأذنَيها. رفَعَت جسدها قليلًا بالاتِّكاء على يدَيها، ثم بذلَت كلَّ ما بوُسعها لترى أو تسمع، لتعرف معنى هذا الصوتِ الدُّنيوي جدًّا. كان كل شيء ساكنًا مجددًا لمدة ثوانٍ قليلة، وعاد الصمتُ نفسُه يُخيِّم مجددًا على البراح الشاسع الخاوي. كانت مارجريت قد سمعت ذلك الصوتَ كما لو كانت شبه فاقدةٍ للوعي، وشعرت بأنها تحلم تحت تأثير ضوء القمر المغناطيسيِّ البارد في الأعلى، ثم سمعَت الصوتَ مجددًا، وهذه المرة توقَّف قلبها، ونظرت حولها بعينَين كبيرتَين متَّسِعتَين وهي لا تجرؤ على الثقة بحواسِّها الأخرى. «سحقًا! يا ليت هذَين الرجلَين اللعينَين لم يضربا بكلِّ تلك القوة العنيفة!» كان الصوتُ هذه المرةَ واضحًا تمامًا بما لا يدعُ مجالًا للخطأ في معرفة هُويَّة صاحبه؛ إذ لا توجد سوى شفتَين بريطانيتَين للغاية تستطيعان أن تنطقا هذه الكلمات، بنبرةٍ ناعسةٍ متباطئةٍ متكلَّفة. كرَّرَت هاتان الشفَتان البريطانيَّتان أنفسُهما بنبرةٍ مشدَّدة: «اللعنة! سحقًا! لكني ضعيفٌ كجرذ!» هبَّت مارجريت واقفةً على قدَمَيها فورًا. هل كانت تحلم؟ هل كانت تلك الجروفُ الصخرية الشاهقة هي أبوابَ الجنة؟ هل نتَجَت رائحةُ النسيم العطرة فجأةً من رفرفة أجنحة الملائكة التي جاءت حاملةً معها بُشرى بأفراحٍ سَماوية بعد كلِّ معاناتها، أم أن فقدان وعيها وتعبها جعَلاها فريسةً للهذَيان؟ أنصتَت مجددًا، ومرةً أخرى سمعت ذاك الصوتَ الدنيوي الذي ينطق بلكنةٍ إنجليزية سليمة أصيلة، ليست شبيهةً إطلاقًا بهمساتٍ من الجنة أو رفرفةِ أجنحة الملائكة. نظرَت حولها بلهفةٍ إلى الجروف الشاهقة، والكوخ المهجور، والساحل الصخريِّ الواسع الممتد. ففي مكانٍ ما هناك، في الأعلى أو الأسفل، خلف صخرةٍ أو داخلَ حفرة، لا بد أن يوجد صاحبُ ذاك الصوت الذي كان يُزعجها في الماضي، لكنه الآن سيجعلها أسعدَ امرأةٍ في أوروبا لو استطاعَت تحديد مكانه فقط، لكنه ما زال خفيًّا عن عينَيها المشتاقتَين المنفعلتَين. صرَخَت بهستيريا معذَّبةٍ بين الشك والأمل: «بيرسي! بيرسي! أنا هنا! تعالَ إليَّ! أين أنت؟ بيرسي! بيرسي! …» قال الصوت الناعس المتباطئ نفسُه: «من السهل جدًّا أن تُناديني يا عزيزتي! ولكن سحقًا، لا يمكنني المجيءُ إليكِ، فهذان الفرَنسيان اللعينان قد أوثقاني كإوزَّةٍ على سيخ، وأنا ضعيفٌ كفأر … لا يُمكنني أن أفلت.» لم تفهم مارجريت بعد. وظلَّت هكذا نحو عَشْر ثوانٍ أخرى إلى أن أدركَت مصدر ذلك الصوت، المتباطئ جدًّا، والعزيزِ عليها جدًّا، لكنه — مع الأسف! — كان ممزوجًا بلهجةٍ غريبة تنمُّ على الضعف والمعاناة. لم يكن يوجد أحدٌ في نِطاق بصرها … ما عدا ذاك الموجود بجانب تلك الصخرة … يا رباه! … اليهودي! … هل جُنَّت أم أنها كانت تحلم؟ كان ظهره مواجهًا لنورِ القمر الباهت، وكان شِبهَ منبطحٍ على الأرض، يُحاول عبثًا أن يرفع نفسَه على ذِراعَيه الموثقتَين بإحكام. ركضَت مارجريت إليه، وأخذت رأسَه بين يدَيها الاثنتَين … ونظرَت مباشرةً إلى عينيه الزرقاوين الوُدِّيتَين، بل والمستمِعتَين قليلًا، وهما تلمَعان من خلال قناع اليهودي الغريب المشوَّه. قالت لاهثةً وهي تكاد تفقدُ وعيها من شدةِ الفرح: «بيرسي! … بيرسي! … زوجي! أشكر للرب! أشكر للرب!» ردَّ مازحًا: «عجبًا يا عزيزتي! كلانا سيفعل هذا حالًا، إذا كنتِ تظنِّين أنكِ تستطيعين فكَّ هذه الحبال اللعينة، وتخليصي من وضعيتي غيرِ اللطيفة.» لم تكن تملكُ سكينًا، وكانت أصابعُها خدرةً وضعيفة، لكنها استخدمَت أسنانها، بينما سالت دموعُ الترحيب الشديد من عينَيها على تلك اليدَين المسكينتين المربوطتين. وبعد جهودٍ مَحمومةٍ منها، بدا أنَّ الحبال تنقطع أخيرًا، وعندئذٍ قال: «سحقًا! أتساءل عمَّا إذا كان أيُّ سيدٍ إنجليزيٍّ قد سمَح من قبل لأجنبيٍّ لَعين بأن يضربَه، دون أن يبذل أيَّ محاولةٍ لردِّ الصاع بمثله.» كان من الواضح جدًّا أنه كان مُنهَكًا من الألم الجسديِّ الشديد، وعندما انقطع الحبل أخيرًا، تكوَّم مستندًا إلى الصخرة. نظرَت مارجريت حولها بعجز. صاحَت في عذابٍ وهي ترى أنه على وشك أن يفقد وعيَه مجددًا: «أوه! يا ليتني أجدُ قطرة، قطرةَ ماءٍ على هذا الشاطئ الفظيع!» تمتمَ وهو يبتسمُ مازحًا: «لا يا عزيزتي، أنا شخصيًّا أُفضِّل قطرةً من البراندي الفرنسي! إن وضعتِ يدَكِ في جيب هذا الثوب القديم القذر، فستجدين قنِّينتي. فأنا لا أستطيع التحرُّك إطلاقًا.» عندما شرب بعض البراندي، أجبر مارجريت على فِعل المثل. قال وهو يتنهَّد برِضًا: «رباه! الوضع أفضلُ الآن! أليس كذلك! أيتها السيدة الصغيرة؟ وا أسَفاه! هذه ثيابٌ شاذة على السير البارون بيرسي بليكني … ولا يليق به أن تجده زوجتُه، بنفسها، وهو مُرتدٍ إياها.» أضاف وهو يُمرر يده على ذقنه: «يا إلهي! لم أحلق منذ نحوِ عشرين ساعة، لا بد أنني أبدو كشيءٍ مقرف. أما هذه الخصلات المتموجة …» وخلع، ضاحكًا، الشعر المستعار والخصلات المتموجة التي كانت تُشوِّه شكله الحقيقيَّ، ومدَّد أطرافه الطويلة التي كانت مُتشنِّجةَ العضلات من تأثير تحدُّبِه المتعمَّد طوال ساعات. ثم انحنى إلى الأمام وحدَّق طويلًا إلى عينَي زوجته الزرقاوين. همسَت بينما تورَّدَت وجنتاها الرقيقتان ورقبتها الجميلة تورُّدًا عميقًا: «بيرسي، ليتك تعرف …» قال بلطفٍ بالغ: «أعرف يا عزيزتي … كل شيء.» «وهل يمكن أن تغفر؟» «لا يوجد ما أغفره يا حبيبتي؛ فشَجاعتُكِ وإخلاصكِ — اللذان لا أستحقُّهما مع الأسف! — كفَّرا عن الحادثة المؤسفة في الحفل وزيادة.» همَسَت قائلةً: «إذن فقد كنتَ تعرف؟ … طَوال الوقت …» أجاب بلُطف: «أجل! كنت أعرف … طَوال الوقت. لكن، يا إلهي! لو أنني كنتُ أعرف حقيقةَ قلبِكِ النبيل، يا مارجو يا حبيبتي، كنتُ سأثق بكِ بقدرِ ما تستحقِّين، وما كنتِ لتعيشي المآسيَ الفظيعة التي مرَرتِ بها في الساعات القليلة الماضية، لِتُهرَعي خلف زوجٍ ارتكب الكثيرَ مما يستدعي الغفران.» كانا يجلسان متجاوِرَين مستنِدَين إلى صخرة، وقد أراح هو رأسَه المتألم على كتفها. من المؤكد أنها الآن كانت تستحقُّ لقب «أسعد امرأةٍ في أوروبا». قال بابتسامته المازحة المعهودة: «إننا بمنزلةِ شخصٍ أعمى يُساعد شخصًا أعرَج، أليس كذلك يا حبيبتي؟ سحقًا! لا أدري أيُّهما الأشدُّ تألُّمًا؛ كتفاي أم قدماكِ الصغيرتان.» انحنى إلى الأمام ليُقبِّلَهما لأنَّهما ظهَرَتا من خلال جواربها الممزقة، وكانتا شاهِدتَين بشكلٍ مثيرٍ للشفقة على تحمُّلِها وإخلاصها. قالت برعبٍ وندم مفاجئَين: «لكن أرماند …» كما لو أنها، في خِضَمِّ سعادتها، قد رأت في مخيلتِها الآن صورة الأخ المحبوب الذي ارتكبَت إثمًا فادحًا من أجله. قال برقَّة: «أوه! لا تقلقي إطلاقًا على أرماند يا حبيبتي، ألم أتعهَّدْ لكِ بشرفي أنه سيكون بخير؟ إنه مع تورناي والبقية على متن «داي دريم» الآن بالفعل.» قالت شاهقةً: «لكن كيف؟ لا أفهم.» قال بضحكته المميزة التي تمزج بين الخجَل والبلاهة: «لكن الأمر بسيطٌ جدًّا يا عزيزتي. اسمعي! عندما عرَفتُ أن ذاك البهيم شوفلان ينوي الالتصاقَ بي كعلَقةٍ، ارتأيتُ أن أفضل تصرفٍ ممكن، بما أنني لا أستطيع التخلص منه، هو أن آخُذَه معي. كان عليَّ أن أصلَ إلى أرماند والبقيةِ بطريقةٍ ما، وكل الطرق كانت تحت الحراسة، والجميع يبحثون عن خادمِكِ المتواضع. كنتُ متيقنًا عندما انسللتُ من بينِ أصابع شوفلان في نزل «القط الرمادي»، من أنه سيبقى بانتظاري هنا أيًّا ما كان الطريق الذي أسلُكه. أردتُ أن أراقبه وأراقب أفعاله، والرأس الإنجليزي بارعٌ بقدر الفرنسي دائمًا.» بل ثبتَ أنه أفضل بقدر لا متناهٍ، وكان قلبُ مارجريت مفعمًا بالفرح والإعجاب، بينما واصل بيرسي سرْدَ الطريقة الجريئة التي انتشل بها المطارَدين وأنقذَهم أمام عينَي شوفلان نفسه. قال مبتهجًا: «تنكَّرتُ في هيئة اليهودي المسن القذر؛ لأنني كنتُ أعرف أنني يجب أن أُخفِيَ هُويَّتي. كنت قد التقيتُ بروبن جولدشتاين في كاليه باكرًا هذا المساء. ومقابلَ بِضع قطعٍ ذهبيَّة، أعطاني هذا اللباس، وتعهَّدَ بإبعاد نفسه عن أنظار الجميع، بينما أعارني عرَبته وحصانه الهزيل.» قالت لاهثةً بحماس: «لكن لو أن شوفلان كان قد اكتشفَك … صحيحٌ أن تنكُّرَك كان متقنًا … لكنه ذكيٌّ جدًّا.» ردَّ بهدوء: «سحقًا! كانت اللعبة ستنتهي عندئذٍ بالتأكيد. لم يكن بوسعي سوى المخاطرة. صرتُ أعرف الطبيعة البشرية جيدًا الآن»، وأضاف بنبرةِ حزنٍ تتخلَّلُ صوتَه المبتهج الشاب: «وأعرف هؤلاء الفَرنسيِّين تمام المعرفة. سيشمئزُّون من رجلٍ يهودي اشمئزازًا شديدًا جدًّا، لدرجة أنهم لن يقتربوا منه أبدًا أكثرَ من بِضْع ياردات، ويا إلهي! أتصور أنني تمكَّنتُ من جَعْل مظهري مُنفِّرًا بأقصى قدرٍ يمكن تخيلُه.» سألَت بلهفة: «أجل! … وبعد؟» «تبًّا! … بعدها بدأتُ تنفيذ خُطتي الصغيرة؛ وهذا يعني أنني في البداية كنتُ عازمًا على ترك كلِّ شيءٍ للصدفة، لكنني عندما سمعت شوفلان يُملي الأوامر على الجنود، ارتأيتُ أنني أنا والقدر سنتعاون معًا في النهاية. اعتمدتُ على الطاعة العمياء لدى الجنود. فشوفلان هدَّدَهم بالقتل إن تحركوا قبل أن يأتيَ الإنجليزي الطويل. كان ديجا قد رمى بي مُكوَّمًا على مقربة شديدة من الكوخ، لم ينتبه الجنودُ إلى اليهوديِّ الذي أوصل المواطن شوفلان إلى هذا المكان. استطعتُ تحريرَ يديَّ من الحبال التي قيَّدني بها ذاك البهيم؛ ودائمًا ما أحمل معي قلمَ رصاصٍ وورقةً أينما أذهب، فكتبتُ بِضعة تعليمات مهمة على قصاصة ورقية في عُجالة، ثم نظرتُ حولي. زحفتُ إلى الكوخ تحت أنظار الجنود، الذين انتظروا مختبئين بلا حركةٍ كما أمرهم شوفلان، ثم رميتُ ورقتي الصغيرة في الكوخ من خلال صدع في الجدار، وانتظرتُ. في تلك القصاصة أخبرتُ المطارَدين بأن يخرجوا من الكوخ بهدوء وينزلوا الجروف، ويلزموا الجانب الأيسرَ حتى يصلوا إلى أول خليجٍ ثم يُطلِقوا إشارةً معينة، حينها سيأتي مركب «داي دريم» الذي كان ينتظرهم على مسافةٍ غير بعيدة في البحر ليأخذهم. أطاعوا التعليماتِ بحذافيرها، من حُسن حظهم وحظي. وكذلك فالجنود الذين رأَوْهم كانوا مُطيعين بالقدر نفسِه لأوامر شوفلان. لم يتزحزحوا قِيدَ أَنمُلة! انتظرتُ نحوَ نصف الساعة، وحين عرَفتُ أن المطارَدين صاروا في مأمن، أعطيتُ الإشارة التي سبَّبَت الكثيرَ من الاضطراب.» وتلك هي القصة كلها. بدت بسيطةً جدًّا! ولم يسَعْ مارجريت سوى أن تتعجبَ من العبقرية المذهلة، والجسارة والجُرأة اللامحدودتَين اللتَين تطوَّرتا وساعدَتا في تنفيذ هذه الخطة الجريئة. قالت، وهي تشهق برعبٍ، عندما تذكَّرَت الإذلال المخيف: «لكن هذين المتوحشَين ضرباك!» قال بلُطف: «حسنًا، لم يكن من الممكن تجنبُ ذلك؛ ففي حين أن مصير زوجتي الصغيرة لم يكن واضحًا، كان عليَّ أن أبقى هنا إلى جوارها.» وأضاف بمرحٍ: «سحقًا! لا تقلقي أبدًا! سينال شوفلان ما يستحقه، أعِدُك بهذا! انتظري حتى ألتقيَه عندما يعود إلى إنجلترا! … رباه! سيدفع ثمنَ الضربات التي أعطاني إياها بفائدةٍ مضاعفة، أعِدُكِ.» ضحِكَت مارجريت. كان من الرائع جدًّا أن تكون إلى جواره، أن تسمع صوته المبتهج، أن تُشاهد ذاك الالتماع الجذل في عينَيه الزرقاوين، وهو يمدُّ ذراعَيه القويتين شوقًا لذلك العدو وترقبًا لعقابه المستحَق. لكنها انتفضَت فجأة؛ وزال الاحمرارُ السعيد عن وجنتيها، وانطفأ نورُ البهجة في عينيها؛ إذ سمعت وقْعَ أقدام تقترب خلسةً من الأعلى، وتدحرجَ حجر صغير من فوق الجرف إلى الشاطئ في الأسفل. همسَت برعبٍ وارتياع: «ما كان ذلك؟» تمتم بضحكةٍ جذلة: «أوه، إنه لا شيء يا عزيزتي. مجرد شخصٍ تافه تصادف أنكِ نسيتِه … صديقي فولكس …» قالت بشهقةٍ: «السير أندرو!» بالفعل، كانت قد نسيَت تمامًا الصديقَ والرفيق المخلص، الذي وثق بها ووقَف إلى جانبها خلال كلِّ تلك الساعات من القلق والعذاب. تذكَّرَته الآن متأخرًا وبغُصةٍ من تأنيب الضمير. قال السير بيرسي بمرح: «أجل! لقد نسيتِه، أليس كذلك يا عزيزتي؟ من حُسن الحظ أنني التقيتُ به غيرَ بعيدٍ عن «القط الرمادي»، قبل أن أحظى بمأدُبةِ العشاء الشائقة مع صديقي شوفلان. سحقًا! لدي دَينٌ سأسوِّيه مع ذاك الشاب المتهور! لكن إلى أن يحينَ ذلك، أخبرتُه عن طريقٍ طويل جدًّا ومُلتوٍ جدًّا، لن يَشكَّ به رجال شوفلان أبدًا، سيُحضِره إلى هنا بحلول الوقت الذي نكون فيه مستعدِّين له، أليس كذلك، أيتها الصغيرة؟» سألت مارجريت باندهاشٍ تام: «وأطاع؟» «بلا كلمةٍ أو سؤال. انظري، ها هو قادم. لم يقف في طريقي عندما لم أكن أحتاجُ إليه، والآن وصَل في الوقت المناسب بالضبط. آه! سيكون زوجًا رائعًا ومنظمًا جدًّا لسوزان الصغيرة الجميلة.» في هذه الأثناء، كان السير أندرو فولكس قد شقَّ طريقه بحذرٍ إلى أسفل الجروف، توقفَ بضع مرات منصتًا للهمسات التي من شأنها أن تُرشِدَه إلى مخبأ بليكني. وأخيرًا تجرأ على أن يقول بحذر: «بليكني! بليكني! أنتَ هناك؟» وفي اللحظة التالية أتى من حول الصخرة التي كان السير بيرسي ومارجريت يستندان إليها، وعندما رأى الهيئةَ الغريبة ما زالت مكسوَّةً بالسترة اليهودية الطويلة، توقفَ فجأةً في حيرةٍ تامة. لكن بليكني كان قد وقف على قدَمَيه بصعوبة. قال بضحكته البلهاء المميزة: «ها أنا يا صديقي، ما زلتُ حيًّا! مع أنني أبدو كفزَّاعةٍ بشعة في هذه الأسمال اللعينة.» أطلق السير أندرو شتيمةً من شدة اندهاشه عندما تعرَّف قائده: «اللعنة! من بين كل اﻟ…» رأى الشابُّ مارجريت، فابتهج وكبحَ الألفاظ النابيةَ التي صعدت إلى شفتَيه عند رؤية السير بيرسي المتأنِّقِ المتغندِر مكتسيًا بزيِّه الغريب المتَّسخ. قال السير بليكني بهدوء: «أجل! من بين كل اﻟ… إحم! … يا صديقي! لم يُتَح لي من قبلُ أن أسألك عمَّا تفعله في فرنسا، بينما أمرتُك بالبقاء في لندن؟ تمرَّدتَ؟ أليس كذلك؟ انتظر حتى يخفَّ ألمُ كتفي وأقسم بالرب أنك سترى العقابَ الذي ستناله.» قال السير أندرو بضحكةٍ مسرورة: «سحقًا! سأتحمَّله؛ لأنك حيٌّ تمنحُني إياه. هل كنتَ ستسمح لي بأن أترك الليدي بليكني تخوض الرحلةَ وحدها؟ لكن بحقِّ السماء يا رجل، من أين جئتَ بهذه الملابس العجيبة؟» ضحك السير بيرسي بمرح قائلًا: «يا إلهي! إنها قديمةٌ وطريفة قليلًا، أليس كذلك؟» وأضاف بجِدِّية مفاجئةٍ ونبرة سلطوية: «لكن سحقًا! الآن بما أنك قد جئت يا فولكس، يجب ألَّا نُضيع المزيد من الوقت؛ فذاك البهيم المتوحش شوفلان قد يُرسل أحدًا للبحث عنا.» كانت مارجريت سعيدةً للغاية، كان بإمكانها البقاءُ هنا إلى الأبد؛ تسمع صوته، وتطرح مائة سؤال. ولكن عندما ذُكر اسمُ شوفلان، انتفضَت سريعًا بذُعر، خوفًا على الحياة الغالية التي كانت مستعدَّةً للموت من أجل إنقاذها. قالت شاهقة: «لكن كيف يمكننا أن نعود؟ الطرق مليئةٌ بالجنود بيننا وكاليه، و…» قال: «لن نعود إلى كاليه يا حبيبتي. ولكن إلى الجانب الآخر من رأس جريس نيز، يبعد أقلَّ من نصفِ فرسخٍ عن هنا. مركب «داي دريم» سيُلاقينا هناك.» «مركب «داي دريم»؟» قال بضحكةٍ مرحة: «أجل! حيلةٌ بسيطةٌ أخرى من حِيَلي. كان ينبغي أن أُخبرَكِ سلفًا بأنني، عندما دسستُ تلك الرسالة في الكوخ، أضفتُ واحدة أخرى لأرماند، وأخبرتُه بأن يتركها خلفه، وهذه هي التي أرسلَت شوفلان ورجاله عائدين إلى نزل «القط الرمادي» خلفي، لكن الرسالة الأولى كانت تحوي توجيهاتي الحقيقية، من بينِها تلك الموجَّهة إلى بريجز العجوز. لديه أوامر مني بأن يبتعدَ في البحر، ثم يتوجَّه نحو الغرب. وعندما يختفي تمامًا عن أنظار كاليه، سيُرسل القادس إلى خليجٍ صغير نعرفه أنا وهو، على الجانب الآخَر من رأس جريس نيز مباشرة. سيترقَّب الرجال وصولي، لدينا إشارةٌ متفَقٌ عليها سلفًا، وسنكون جميعًا على سطحه آمِنين، بينما شوفلان ورجاله عاكفون بكل جديةٍ على مُراقبة الخليج «المقابل مباشرة ﻟ «القط الرمادي»».» «الجانب الآخَر من رأس جريس نيز؟ لكن أنا … لا أستطيع المشي يا بيرسي»، تأوَّهَت بعَجزٍ وهي تُحاول الوقوف على قدمَيها بصعوبة، ووجدَت أنها غيرُ قادرة على الوقوف حتى. قال ببساطة: «أنا سأحملك يا عزيزتي؛ الأعمى يقود الأعرج، كما تعرفين.» كان السير أندرو مُستعدًّا، هو الآخر، للمساعدة في حمل هذا الحمل الثمين، لكن السير بيرسي ما كان لِيَعهَد بحبيبته إلى ذراعين غيرِ ذراعَيه. قال لرفيقه الشاب: «عندما تكون أنت وهي آمِنَين على متن «حلم اليقظة»، وأشعر بأن عينَي الآنسة سوزان لن تستقبلَني في إنجلترا بنظراتٍ مؤنِّبة، فسيَحينُ دَوري للراحة.» وبذراعيه، اللتين كانتا لا تزالان قويَّتَين رغم الألم والمعاناة، طَوَّقَ جسد مارجريت المسكين المرهق، ورفعَها بلُطفٍ كما لو كانت ريشة. ثم ابتعد السير أندرو عنهما لئلا يَسمع ما يقولانه في لفتةٍ تنم على حَصافته ومُراعاته للآخَرين، وهنا تبادَلا الكثير من الكلمات — أو بالأحرى الهمسات — التي لم يسمَعْها حتى نسيمُ الخريف؛ لأنه كان قد سكَن. نسي بيرسي كلَّ تعبه، صحيحٌ أن كتِفَيه كانتا تؤلمانه جدًّا؛ لأن الجنديَّين ضرَباه بشدة، لكن عضلات الرجل بدَت مصنوعةً من حديد، ومقدرته كادت تكون غيرَ طبيعية. كانت رحلةً شاقَّة ومرهِقة على الأقدام، نصف فرسخٍ على طول الجانب الصخري من الجروف، لكنَّ عزمه لم يَلِنْ ولو لحظة، ولم تُذعِن عضَلاتُه للإرهاق. واصل المشيَ بخطواتٍ ثابتة، محتضِنًا الحِمْل الثمين بذِراعَيه، و… كانت مارجريت مستلقيةً في هدوءٍ وسعادة، وكانت تُهدهِد أحيانًا إلى أن يغلبها نُعاسٌ مؤقَّت، وأحيانًا أخرى كانت تتأمَّلُ الوجه الجذَّاب ذا العينَين الزرقاوَين الناعستَين المتراخيتَين المرحتَين دائمًا، والمشرقتَين دومًا بابتسامةٍ ودودة، خلال ضوءِ الفجر المتجمِّع ببُطء، ومن المؤكد أنها في تلك الأثناء همسَت له بالكثير من الأشياء، التي ساعدَت في تقصير الطريق المرهِق، وهدأَت أوتاره المتألمة كالبلسم. كان ضوء الفجر بألوانه العديدة يبزغ في الشرق، عندما وصَلوا أخيرًا إلى الخليج الواقع خلفَ رأس جريس نيز. كان القادس في الانتظار، واقترب منهم استجابةً لإشارةٍ من السير بيرسي، وتشرَّف بحَّاران إنجليزيان قويان بأن يحملا السيدة إلى متن القارب. وبعد ذلك بنصف ساعةٍ، كانوا على متن «داي دريم». لم يُفاجَأ أفرادُ الطاقم، الذين كانوا يعرفون أسرارَ سيدهم حتمًا، والذين كانوا مخلِصين له قلبًا وروحًا، برؤيته يصلُ متنكرًا في هذه الهيئة العجيبة جدًّا. كان أرماند سان جوست وبقية المطاردين متلهِّفين لقدوم مُنقذِهم الشجاع، الذي لم يبقَ لسماع عبارات امتنانهم، بل ذهب إلى مقصورته الخاصة بأسرعِ ما يمكن، تاركًا مارجريت سعيدةً جدًّا بين ذراعَي أخيها. كان كلُّ شيء على متن «داي دريم» مجهزًا بتلك الفخامة الممتازة المحبَّبة جدًّا إلى قلب السير بيرسي بليكني، وبحلول الوقت الذي هبَطوا فيه جميعًا في دوفر، كان قد وجد متَّسَعًا من الوقت لارتداء بعضِ الملابس الفخمة التي كان يُحبُّها، ويحتفظ بمؤنةٍ منها على متن مركبه دائمًا. غيرَ أن الصعوبة كانت تكمن في توفير حذاءٍ لمارجريت، وكانت فرحةُ ضابط الصف البحريِّ الصغير عظيمةً عندما وجَدَت السيدة أنها يمكن أن تطأ بقدمها الشاطئَ الإنجليزي مرتديةً أفضل حذاءٍ لديه. أما بقية الأحداث، فكانت صمتًا! … صمتًا وفرحًا لدى أولئك الذين تحمَّلوا الكثيرَ من العذاب، لكنهم وجَدوا أخيرًا سعادةً عظيمةً دائمة. لكن من المشهود به أن أجمل امرأة في الحفل المتألق الذي شهد زفافَ السير البارون أندرو فولكس والآنسة سوزان تورناي دي باسيريف، والذي حضَره صاحبُ السمو أمير ويلز وكلُّ نخبة المجتمع الأنيق العصري، كانت بلا شك هي الليدي بليكني، بينما كانت ملابسُ السير بيرسي بليكني حديثَ شبَّان لندن المتأنِّقين الأثرياء عدةَ أيام. ومن الحقائق الثابتة أيضًا أن السيد شوفلان، موفد حكومة الجمهورية الفرنسية المعتمَد، لم يكن حاضرًا في تلك المناسبة، أو أيِّ مناسبةٍ اجتماعية في لندن بعد تلك الأمسية التي لا تُنسى في حفل اللورد جرينفل.
|
{
"chapter": "الهروب",
"dataset_name": "hindawi",
"title": "سكارليت بيمبرنِل",
"url": "https://www.hindawi.org/books/30473582/31/"
}
|
في فترةِ ما بعد الظهيرة عندما عاوَد كارادين الظهور في غُرفة المستشفى كان جرانت قد سار نحو النافذة وعاد إلى سريره، وكان مُبتهجًا من ذلك كثيرًا، حتى إن المُمرِّضة القزمة شعرت بالحاجة لتذكيره بأن هذا شيءٌ يمكن لطفل في عمر ثمانية عشر شهرًا أن يفعله. لكن لم يكن يمكن لأي شيء أن يكبت جرانت اليوم. صاح بتبجُّح قائلًا: «ظننتم أنكم ستُبقونني هنا لأشهُر، أليس كذلك؟» فقالت بتحفظ: «نحن مسرورون كثيرًا لرؤيتك تتحسَّن بهذه السرعة»، ثم أضافت: «وبالطبع، مسرورون كثيرًا أيضًا لأننا سنستعيد سريرك.» وراحت خطواتها تُطقطِق في المَمر وهي تبتعد، بشَعرها الأشقر المُموَّج وقامتها المشدودة. استلقى جرانت على سريره، ونظر إلى غُرفة السجن الصغيرة بشعورٍ يكاد يقترب من المحبة. إن رجلًا وقف على حافة أحد القطبَين أو رجلًا وقف على قمَّة جبل إفرست لا يتفوَّقان بشيء على رجلٍ وقف بجوار نافذة بعد أسابيع من كونه على بُعدِ اثنَي عشر حجرًا فقط من العَوَز. أو هكذا شعرَ جرانت. غدًا سيعود إلى البيت. سيعود إلى البيت لتعتنيَ به السيدة تينكر. سيَتحتَّم عليه أن يقضيَ نصف يومه في السرير، ولن يكون قادرًا على المشي إلا بمساعدة عصاه، لكنه سيعود رجلًا مستقلًّا. لن يكون تحت رحمة أحد. لن يكون تحت رعاية امرأة مُجِدَّة قصيرة، ولن تعطف عليه امرأةٌ مِعطاءةٌ ضخمة. كان هذا استشرافًا لمستقبلٍ رائع. كان بالفعل قد أمطر السيرجنت ويليامز — الذي كان قد أولى عناية بإنهاء مَهامِّه الروتينية في إسكس — بكل تعبير لديه عن الامتنان، وكان حينئذٍ يَتُوق إلى أن تأتيَ مارتا من أجل أن يتباهى أمامها برجولته المُكتشَفة حديثًا. كان ويليامز قد سأله: «كيف كان تعاملك مع كتب التاريخ؟» «على أفضلِ نحو. لقد أثبتُّ أنها جميعًا خاطئة.» ابتسَم ويليامز. وقال: «أظن أنه يوجد قانونٌ ضد ذلك.» وتابَع: «لن يَرُوق هذا لوكالة الاستخبارات والأمن الداخلي. قد يتحوَّل الأمر إلى خيانة أو ازدراء للذات الملكية أو شيء من هذا القبيل. لا يمكن للمرء أن يتوقَّع شيئًا في هذه الأيام. سأحترس لو كنت مكانك.» «أُقسمُ أنني لن أعود أبدًا ما حيِيتُ لتصديق أي شيء أقرؤه في كتب التاريخ.» فأشار ويليامز بمنطقه الصارم: «سيتعيَّن عليك أن تستثنيَ بعض الحالات.» وأضاف: «فالملكة فيكتوريا كانت حقيقية، وأظنُّ أن يوليوس قيصر قد غزا بريطانيا بالفعل. ولديك عام ١٠٦٦.» «بدأت تُساوِرني شُكوكٌ هائلة بشأن عام ١٠٦٦. أرى أنك أتممت مهمة إسكس. كيف يبدو تشامي؟» «إنه آفةٌ صغيرةٌ شعواء. كان يُعامَل بِلِين طوالَ حياته منذ بدأ يسرق فكَّة النقود من أمه وهو في عمر التاسعة. ربما كان ضرْبه بالحزام وهو في الثانية عشرة من عمره سيُنقِذ حياته. الآن سيُشنَق قبل أن يُزهِر اللوز. سيأتي الربيع مُبكِّرًا هذا العام. كنت أعمل طيلة مساء كل يوم في الحديقة في الأيام القليلة الماضية، بعدما صار النهار يمتد. ستُسَرُّ باستنشاق الهواء العليل مُجدَّدًا.» كان ويليامز قد غادَر باسمًا رصينًا مُتزنًا، كما يليق برجل كان يُضرَب بالحزام في صِباه من أجل مصلحته. وهكذا كان جرانت يَتُوق لزائرٍ آخرَ من العالم الخارجي الذي سيُصبح جزءًا منه عما قريب، وكان مسرورًا حين سمع النقر المُتردِّد المألوف على بابه. فنادى يقول في ابتهاج: «ادخُل يا برينت!» فدخل برينت. لكنه لم يكن برينت نفسه الذي غادَره آخرَ مرة. كان ابتهاجه قد ولَّى. كان عرض صدره المُكتسَب حديثًا قد ولَّى. لم يَعُد كارادين الرائد السبَّاق. كان مجردَ شابٍّ نحيل يرتدي مِعطفًا فوقيًّا طويلًا جدًّا وواسعًا جدًّا. بدا كارادين صغيرًا ومصدومًا ومفجوعًا. راقَبه جرانت في حيرةٍ وجزع وهو يجتاز الغُرفة بمشيته الخاملة غير المُتناسِقة. لم تكن توجد مجموعة أوراق بارزة من جيبه الذي يُشبِه كيس البريد. أوه، حسنًا، فكَّر جرانت بطريقةٍ فلسفية؛ كان الأمر مُمتعًا ما دام مستمرًّا. كان من المُحتَّم أن تطرأ عقبة في مرحلةٍ ما. فلا يمكن للمرء أن يُجريَ أبحاثًا جادَّة بطريقة الهُواة البريئة تلك ويأمُل أن يُثبت شيئًا من خلالها. لا يمكن للمرء أن يتوقَّع أن يدخل شابٌّ هاوٍ سكوتلاند يارد ويحلَّ قضيةً أعجزت المُحترِفين؛ فلماذا ظنَّ نفسه أذكى من المُؤرِّخين. كان يريد أن يُثبت لنفسه أنه كان مُحقًّا في قراءته للوجه في البورتريه؛ أراد أن يمحوَ عارَ وضعِه أحد المجرمين في موضع القضاة بدلًا من أن يضعه في قفص الاتهام. لكن كان سيَتحتَّم عليه أن يتقبَّل خطأه ويُرحِّب به. لعله كان يتمنى ذلك. لعله، في أعماق أعماقه، كان يزداد سرورًا واغتباطًا بنفسه لبراعته في قراءة الوجوه. «مرحبًا، يا سيد جرانت.» «مرحبًا، برينت.» في الواقع كان الأمر أسوأ على الصبي. كان في عمرٍ يتوقَّع فيه حدوث المعجزات. كان لا يزال في عمرٍ يتفاجأ فيه من انفجار بالون. قال جرانت للشاب مُمازحًا: «تبدو حزينًا.» وأردف: «حدث شيءٌ غير مُتوقَّع.» «كل شيء.» جلس كارادين على الكرسي وحدَّق في النافذة. سأل في عبوس: «ألا تُصيبك هذه العصافير اللعينة بالإحباط؟» «ما الأمر؟ هل اكتشفت في نهاية المطاف أنه كانت توجد شائعةٌ متداولة عن الصبيَّين قبل موت ريتشارد؟» «أوه، بل أسوأ من ذلك بكثير.» «أوه. أهو شيءٌ مكتوب؟ خطاب مثلًا؟» «لا، ليس الأمر على ذلك النحو على الإطلاق. إنه شيءٌ أسوأ بكثير. شيءٌ جوهري … جوهري للغاية. لا أعرف كيف أُخبرك.» أخذ كارادين يُحملِق في سخط في العصافير المُتناحرة. وقال: «اللعنة على هذه الطيور. لم يَعُد بإمكاني إطلاقًا أن أكتب ذلك الكتاب، يا سيد جرانت.» «ولمَ لا، يا برينت؟» «لأن هذا الأمر ليس جديدًا على أي أحد. كان الجميع يعرفون كل تلك الأشياء طيلة الوقت.» «يعرفون؟ يعرفون ماذا؟» «أن ريتشارد لم يقتل الصبيَّين، وكل ذلك.» «كانوا «يعرفون»؟ منذ متى؟!» «أوه، منذ مئات ومئات من السنين.» «تماسَكْ يا صديقي. لم يمرَّ على هذا الأمر سوى أربعمائة عام فحسب.» «أعرف. لكن هذا لا يُشكِّل أي فارق. كان الناس يعرفون أن ريتشارد لم يفعلها منذ مئات ومئات …» «هلَّا تتوقَّف عن هذا العويل وتتحدث بالمنطق. متى كانت أول مرة بدأ فيها رد الاعتبار هذا؟» «بدأ؟ أوه، من أول لحظة مُمكِنة.» «ومتى كان ذلك؟» «ما إنْ رحل آل تيودور وكان من المأمون أن يتكلم الناس.» «تقصد في عهد ستيوارت؟» «أجل، أظن ذلك … أجل. رجل يُدعى باك كتبَ تبرئةً في القرن السابع عشر. وكتب عنها هوراس والبول في القرن الثامن عشر. وشخص يُدعى مارخام في القرن التاسع عشر.» «ومَن كتب عنه في القرن العشرين؟» «لا أحد على حد علمي.» «إذَن ما المشكلة في أن تفعل أنت هذا؟» «لكن الأمر لن يكون سواءً، ألا ترى؟ لن يكون اكتشافًا عظيمًا!» قالها بتشديد. «اكتشافًا عظيمًا». ابتسَم له جرانت. وقال: «أوه، بحقك! لا يمكن أن تتوقَّع أن تتوصل إلى «اكتشافاتٍ عظيمة» في منطقةٍ خالية من الأجمات. إن لم تستطع أن تكون سبَّاقًا، فما المشكلة في أن تقود حملةً عظيمة؟» «حملة عظيمة؟» «بالتأكيد.» «علامَ؟» «على الزيف والوقائع المُزيَّفة مثل أحداث تونيباندي.» اختفى التبلُّد من وجه الفتى. وفجأةً ظهَر عليه الاستمتاع، وكأنه شخصٌ رأى مزحة لتوِّه. وعلَّق قائلًا: «هذا أسوأ الأسماء وأسخفها، حقًّا!» «إن كان الناس ظلوا طوال ثلاثمائة وخمسين عامًا يُشيرون إلى أن ريتشارد لم يقتل ابنَي أخيه، ولا يزال بوسع كِتاب مدرسي أن يقول بكلماتٍ صريحة مباشرة ومن دون تحفُّظ إنه فعل، فيبدو لي أن تزييف التاريخ، ومثال عليه أحداث تونيباندي، مُتقدِّم عليك منذ وقت طويل. حان الوقت لكي تنشغل بالمَهمَّة.» «لكن ماذا يُمكِنني «أنا» أن أفعل في حين أن أشخاصًا مِثل والبول وأمثاله قد فَشِلوا؟» «يوجد مَثلٌ قديم عن المياه المستمرَّة الجريان وتأثيرها على الحجر.» «سيد جرانت، أشعر الآن بشيء من الهُزال والوهن الشديد.» «لا بد لي أن أقول إنك تبدو كذلك فعلًا. لم أرَ من قبلُ مثلَ هذا الشعور بالشفقة على الذات. وتلك ليست حالةً مزاجية مناسبة للبدء في مناطحة الشعب البريطاني. سوف تفقد الكثير من ثِقَلك فعلًا.» «أتقصد لأنني لم أكتب كتابًا من قبل؟» «لا، هذا لا يُهمُّ على الإطلاق. إن أفضل كتاب لدى معظم الكُتَّاب هو كتابهم الأول؛ فهو أكثر كتاب أرادوا كتابته. لا، أقصد أن كل الأشخاص الذين لم يقرءوا كتابَ تاريخ مُطلَقًا منذ تركوا المدرسة سيشعرون بأنهم مُؤهَّلون لإصدار الأحكام على ما كتبت. سيَتَّهمونك بمحاولة تبييض صفحة ريتشارد، ولكلمة «تبييض» مسحةٌ من ازدراء أو انتقاص لا تجدها في كلمة «تبرئة»؛ لذا سيُطلِقون لفظ «تبييض» على ما تفعل. قلة منهم سيبحثون في الموسوعة البريطانية، وسيشعرون بأنهم جديرون ومؤهَّلون للتعمُّق أكثر قليلًا في المسألة. وهؤلاء سيقتلونك بدلًا من أن يسلخوك. ولن يُزعِج المؤرِّخون الجادون أنفُسَهم حتى بملاحظتك.» فقال كارادين: «قسمًا بالرب لأحمِلنَّهم على ملاحظتي!» «أحسنت! تبدو تلك الروح أقرب إلى الروح التي ظفِرَت بالإمبراطورية.» قال كارادين يُذكِّره: «ليس لدينا إمبراطورية.» فقال جرانت بنبرةٍ صارمة: «أوه، كلَّا، لديكم.» وأضاف: «لكن الفارق الوحيد بين إمبراطوريتنا وإمبراطوريتكم أن إمبراطوريتكم اقتصادية، في نطاقٍ واحد، بينما إمبراطوريتنا على شكل قِطع وأجزاء في سائر أنحاء العالم. هل كنت قد كتبت أي شيء في الكتاب قبل أن تصطدم بحقيقة عدم أصالته المريعة؟» «أجل، كنت قد أنهيت فصلَين.» «ماذا فعلت بهما؟ لم تتخلص منهما، أفعلت؟» «لا. كِدت أفعل. كِدت أرمي بهما في نار المدفأة.» «ما الذي منعك؟» قال كارادين: «كانت مدفأةً كهربائية.» ثم مدَّ ساقَيه الطويلتين في حركةٍ تنمُّ عن الاسترخاء، وأخذ يضحك. ثم تابَع قائلًا: «إنني أشعر بتحسُّن بالفعل، يا أخي. لا أُطيق الانتظار حتى أُوجِّه ضربةً ساحقة إلى فم الشعب الإنجليزي مباشرةً باستخدام بضع حقائق عن بلدهم. إن روح كارادين الأول تغلي في عروقي.» «تبدو تلك حماسةً خبيثة.» «كان كارادين الأول وغْدًا عجوزًا لا يعرف الهوادة في قطع الأخشاب. بدأ حياته حطَّابًا، وانتهى به الحال إلى امتلاك قلعة على طِراز عصر النهضة ويخْتَين وسيارة خاصة. سيارة تسيرُ على السكة الحديدية. كان بالسيارة ستائر من الحرير الأخضر المُزركَش، وكانت مُرصَّعة بأعمالٍ خشبية يتعين على المرء رؤيتها ليُصدِّق أنها موجودة. يوجد افتراضٌ شائع، لا سيَّما من قِبَل كارادين الثالث، أن دماء آل كارادين آخذة في الوهَن. لكنني الآن أشعر تمامًا كأني كارادين الأول. أعرف تمامًا كيف كان شعور ذلك العجوز حين أراد شراء غابة بعينها وأخبره أحدهم أنه لن يستطيع الحصول عليها. سأُنجز الأمر بكل حماسة يا أخي.» فقال جرانت بنبرةٍ مُعتدِلة: «هذا رائع.» وأضاف: «كنت أتطلَّع إلى ذلك الإهداء.» ثم أخذ لوحَ الكتابة من فوق الطاولة وأمسك به. وقال: «كنت عاكفًا على تلخيصٍ يُشبِه ما يقوم به رجال الشُّرطة. ربما سيكون ذا عونٍ لك حين تصل إلى مرحلة النهاية في الكتاب.» أخذ كارادين التلخيص وراح ينظر فيه بإمعان واحترام. «اقطع الورقة وخذها معك. لقد انتهيت منه.» فقال كارادين في حزن: «أظن أنك في غضون أسبوع أو اثنَين ستكون مُنشغلًا كثيرًا بتحقيقاتٍ حقيقية، ولن يكون لديك وقت للاعتناء بتحقيقٍ أكاديمي.» قال جرانت بنبرةٍ صادقة: «لن أستمتع أبدًا بأي تحقيق بقدرِ ما استمتعت بهذا.» ثم نظر بطرْفِ عينه إلى البورتريه الذي كان لا يزال مُستندًا إلى الكتب. واستطرد: «كنتُ مُحطَّمًا أكثرَ مما يمكن أن تُصدِّق حين أتيتَ وقد تمكَّن منك القنوط، وكنت أظنُّ أن الكتاب باء بالفشل.» ثم عاوَد النظر إلى البورتريه وقال: «تظنُّ مارتا أنه يُشبِه لورينزو دي ميديشي قليلًا. ويظنُّ صديقها جيمس أنه وجه قدِّيس. ويظنُّ طبيبي الجرَّاح أنه وجهُ مُعاق. ويظنُّ السيرجنت ويليامز أنه يبدو كقاضٍ عظيم. لكنني أظنُّ أن رئيس المُمرِّضات هو الأقرب إلى الصواب.» «وماذا تقول؟» «تقول إنه وجهٌ تعجُّ ملامحه بأشد صور المعاناة وأفظعها.» «أجل. أجل، أظن أنه كذلك. وما كان المرء ليَعجَب من ذلك في نهاية المطاف.» «أجل. أجل، لم يهنأ الرجل إلا قليلًا. لا بد أن آخر سنتَين في حياته كانتا ثقيلتَين مُفاجئتين كانهيارٍ ثلجي. كان كل شيء يسير على خيرِ ما يُرام. وكانت إنجلترا في حالة استقرار أخيرًا. والحرب الأهلية تتلاشى من الأذهان، وحكومة قوية صارمة تُحافِظ على السلام، وتجارة رائجة تُحقِّق الرخاء. لا بد أن المشهد عند النظر من ميديلهام عبر وينسليديل كان يبدو مُبشِّرًا بمستقبلٍ رائع. وفي غضون عامَين، فقدَ زوجته وابنه والسلامَ الذي حقَّقه.» «أعرف أمرًا واحدًا لم يُصِبه.» «وما هو؟» «معرفة أن اسمه سيُمثِّل موضع استهجان وسخرية على مر القرون.» «أجل. كانت تلك ستُصبح الضربة القاصمة. أتعرِف الشيء الذي أجده من وجهةِ نظرٍ شخصيةٍ الأمرَ «الأكثر» إقناعًا في مسألة براءة ريتشارد من أي تخطيط لاغتصاب العرش؟» «لا، ما هو؟» «حقيقة أنه تعيَّن عليه أن يرسل في طلب تلك القوات من الشمال حين أذاع ستيلينجتون أخباره. لو كان يعرف مسبقًا ما كان ستيلينجتون سيقوله، أو حتى كانت لديه أي خُطط لتلفيق قصة بمساعدة ستيلينجتون، لكان قد أتى بتلك القوات معه. إن لم يكن إلى لندن فإلى المقاطعات الرئيسية حيث كانت ستصبح عونًا له. إن إرساله على عَجل أولًا إلى يورك ثم إلى أقاربه من آل نيفيل لهو دليل على أن اعتراف ستيلينجتون أخذه على حين غِرَّة تمامًا.» «أجل. لقد أتى بصحبة حاشيته من السادة مُتوقِّعًا أن يتسلَّم العرش. فجابه أخبار اضطرابات آل وودفيل حين أتى إلى نورثهامبتون، لكن ذلك لم يُزعزِعه. فاجتثَّ شوكة الألفَي شخص من آل وودفيل، وتابَع طريقه إلى لندن كأنَّ شيئًا لم يكن. وكان لم يزل أمامه سوى تتويج تقليدي بحدِّ علمه. ولم يرسل في طلب قوات تابعة له إلا حين اعترف ستيلينجتون أمام المجلس. وكان عليه أن يرسل خطابًا إلى شمال إنجلترا في مثل هذه اللحظة الحرِجة. أجل، أنت مُحقٌّ بالطبع. لقد أُخِذ على حين غِرَّة.» ثم عدَّل بسبَّابته ذراعَ نظارته بحركته المعهودة، وقدَّم دليلًا مُصاحبًا. «أتعرِف ما الذي أجده أكثر إقناعًا في قضية جُرم هنري؟» «ماذا؟» «الغموض.» «الغموض؟» «الغموض. التكتُّم. الأعمال القذرة التي تتم بسِرِّية.» «أتقصد أن هذا من سِماته الشخصية؟» «لا، لا، لا شيء ماكر بقدرِ الغموض. ألا ترى؛ لم يكن ريتشارد بحاجة لأي غموض، لكن قضية هنري برُمَّتها تعتمد على أن تكون نهاية الصبيَّين غامضة. لم يستطِع أحد قطُّ أن يتوصَّل إلى مُبرِّر لهذه الطريقة القذرة والسِّرية التي من المُفترَض أن ريتشارد قد استخدمها. كان ارتكاب الجريمة بهذه الطريقة ضربًا من الجنون. ولم يكن يمكنه أن يأمُل في أن ينجوَ بفَعلته. إذ كان سيَتحتَّم عليه إن عاجلًا أو آجلًا أن يُفسِّر سبب عدم وجود الصبيَّين. وبقدرِ عِلمه كانت أمامه فترةٌ طويلة من الحكم. ولم يستطِع أحد قطُّ أن يُفكِّر في سبب اختياره لهذه الطريقة الصعبة الخطيرة، في حين أنه كان أمامه أساليب وطُرقٌ أكثر بساطة. لم يكن عليه سوى أن يخنق الصبيَّين، ويُرقِدهما في نعشهما بينما تمرُّ عليهما لندن بأَسرِها وتنتحب على صبيَّين ماتا قبل أوانهما بسبب الحُمَّى. كانت تلك هي الطريقة التي كان «من شأنه» أن يُنجِز الأمر بها، أيضًا. يا إلهي، كانت «الغاية» من قتلِ ريتشارد الصبيَّين أن يمنع قيام أي انتفاضة من أجلهما، ولكي يحصل على أي نفع من القتل كان عليه أن يُعلِن نبأ وفاتهما على العامة، وبأسرعِ ما يمكنه. لو لم «يعرف» الناس بموت الصبيَّين فمن شأن هذا أن يُقوِّض خُطته برُمَّتها. أما هنري فكان مُختلفًا. كان «يتعيَّن» على هنري أن يجد طريقة ليُبعدهما عن الأنظار. «تعيَّن» على هنري أن يكون غامضًا. «تعيَّن» على هنري أن يخفيَ حقيقة توقيت وفاتهما وكيفيتها. كان هنري يعتمد في «القضية برُمَّتها» على عدم معرفة أحد بما حدث بالضبط للصبيَّين.» قال جرانت مُبتسمًا في وجه المستشار اليافع المُتحمِّس: «هذا صحيح يا برينت، صحيح بكل تأكيد.» وتابع: «ينبغي لك أن تكون في سكوتلاند يارد يا سيد كارادين!» فضحكَ برينت. وقال: «سأكتفي بالبحث في تزييف الحقائق التاريخية مِثل أحداث تونيباندي.» وأضاف: «أُراهن أنه يوجد الكثير من الوقائع المُماثلة التي لا نعرف عنها شيئًا. أُراهن على أنَّ كتب التاريخ مليئة بها.» قال جرانت: «بالمناسبة، حريٌّ بك أن تأخذ كتاب السير كوثبرت أوليفانت معك.» ثم أخرج المجلَّد الضخم المهيب من الدُّرج. وقال: «ينبغي أن يُلزَم المؤرِّخون بدراسة علم النفس قبل أن يُسمح لهم بالكتابة.» «هه. لن يُفيدهم ذلك بأي شيء. إن الشخص الذي يهتمُّ بالأشياء التي تجعل الناس يتصرفون بسلوكٍ مُعيَّن لا يكتب التاريخ. إنما يكتب الروايات، أو يصبح طبيبًا نفسيًّا، أو قاضيًا …» «أو مُحتالًا.» «أو مُحتالًا. أو عرَّافًا. إن الرجل الذي يفهم طبائع الناس لا يتوق على الإطلاق لكتابة التاريخ. فالتاريخ بمثابة دُمَى جنود.» «أوه، بحقك. ألا ترى أنك مُتزمِّت بعض الشيء في رأيك هذا؟ إن التاريخ مجالٌ واسع للتثقيف والاطلاع على …» «أوه، لم أقصد ما فهِمتَه. أقصد أنه عبارة عن تحريك دُمًى صغيرة هنا وهناك على رقعةٍ مُسطَّحة. إنه منتصف الطريق إلى الرياضيات، حين تُفكِّر في الأمر.» فقال جرانت بمكرٍ فجأةً: «إذَن لو كان فيه من سمات الرياضيات فليس للمُؤرِّخين الحق في أن يُقحِموا فيه الأخبارَ القائمة على الشائعات والنميمة.» ما برِحَت ذكرى مور المعظم تُزعِجه. أخذ يُقلِّب في صفحات كتاب السير كوثبرت الضخم المهيب يُطالعه مطالعةَ المودِّع. وحين وصل إلى الصفحات الأخيرة، تباطأت سرعة تقليبه للصفحات حتى توقَّفت. وقال: «غريب هو مدى استعدادهم لمنح رجل صفةَ الشجاعة في المعركة. ليس لديهم سوى مرويَّات تراثية، ومع ذلك لا أحدَ منهم يتشكك في أمرها. بل في الواقع، لا أحدَ منهم يَقصُر عن التأكيد عليها.» فقال كارادين مُذكِّرًا إياه: «كانت هذه إشادة من عَدُو. إذ بدأت المرويات التراثية بقصيدةٍ قصصية كتبَها الجانب الآخر.» «أجل. على يد رجل من آل ستانلي. «ثم قال فارس إلى الملك ريتشارد» إنها هنا في مكانٍ ما.» قلَّب صفحة أو صفحتَين من الكتاب حتى وجد ما كان يبحث عنه. وأضاف: «كان ذلك الفارس هو «السير ويليام هارينجتون الصالح». ذلك هو الفارس المعني.» «لن ينجوَ رجُل من ضرباتهم؛ فقوَّات ستانلي قوية جدًّا (أولئك الخونة الملاعين!)» يمكنك أن تعود مع مدٍّ آخر؛ إذ أظنُّ أنك بقيت هنا طويلًا، جوادك مستعدٌّ طوع إشارتك، وربما يكون النصر حليفك في يومٍ آخر، وتعود وتحكم بسُموٍّ ملكي، وتضع تاجك وتكون مليكنا. «لا، أعطِني فأس الحرب في يدي، وضَعْ تاجَ إنجلترا عاليًا على رأسي. أُقسمُ بمن بسطَ الأرض ولجَّ البحر، لَأمُوتنَّ اليوم ملِكًا لإنجلترا. لن أفرَّ ولو خطوةً واحدة ما دام بين ضلوعي نفَسٌ يتردد.» «وحدث ما قاله؛ إذا كان فقدَ حياتَه فقدْ مات ملِكًا.» قال كارادين يُفكِّر: ««ضعْ تاجَ إنجلترا على رأسي.»» واستطرد: «ذلك كان التاج الذي عُثِر عليه في أجَمة هوثورن بعد ذلك.» «أجل. أُخِذ غنيمةً على الأرجح.» «اعتدتُ أن أتصوَّره أحد تلك الأشياء الفخمة التي تُوِّج الملك جورج فيها، لكن يبدو أنه كان مجرد حَلْقة ذهبية.» «أجل. كان يمكن ارتداؤها على خوذة المعركة.» فقال كارادين فجأةً: «يا إلهي، من المُؤكَّد أنني كنت سأكره أن أرتديَ هذا التاج لو كنت مكان هنري! من المؤكد أنني كنت سأكرهه!» ثم صمت قليلًا، وقال: «أتعرف ما كتبته مدينة يورك — كُتِب في سجلاتهم — عن معركة بوسوورث؟» «لا.» «كتبوا: «في هذا اليوم قُتِل ملِكُنا الصالح ريتشارد، أُصيبَت هذه المدينة بحزنٍ عظيم».» كان صوت زقزقة العصافير عاليًا أثناء الصمت. فقال جرانت أخيرًا بنبرةٍ جافَّة للغاية: «هذا ليس نعيَ مُغتصِبٍ مكروه.» قال كارادين: «لا، لا.» ثم أخذ يُكرِّر: «أُصيبَت هذه المدينة بحزنٍ عظيم» ببطء، وأخذ يُقلِّب العبارة في ذهنه. واستطرد: «اهتمُّوا كثيرًا بما حدث لدرجة أنهم، حتى مع وجود نظام جديد يلوح في الأفق ومستقبلٍ لا يمكنهم توقُّعه، كتبوا في سجلات المدينة رأيهم؛ وهو أن ما حدث كان اغتيالًا، وعبَّروا عن حزنهم تجاهه.» «لعلهم كانوا قد سمِعوا بالتمثيل الذي ارتُكِب بحق جثة الملك وشعروا بالاشمئزاز قليلًا.» «أجل. أجل. فالمرء لا يُحبُّ أن يتخيَّل رجلًا أحبه وأكنَّ له الإعجاب مطروحًا مجردًا من ثيابه، ويتأرجح على ظهرِ مُهرٍ كحيوانٍ ميت.» «لا يُحبُّ المرء أن يتخيَّل حتى عدوَّه بهذا الشكل. لكن رقة الشعور ليست صفةً يمكن للمرء أن يبحث عنها بين عُصبة هنري ومورتون.» فقال برينت، مُتلفِّظًا بالكلمة كأنه يبصقها لمذاقها السيئ: «هه. مورتون!» واستطرد: «لم يكن أحد «حزينًا» حين مات مورتون، صدِّقني. أتعرِف ما كتب عنه المؤرِّخ؟ أقصد مؤرِّخ لندن. كتب يقول: «في زمننا لم يكن يوجد له مثيل يُقارَن به في كل شيء؛ رغم أنه عاش وسط كراهية العامة في هذه الأرض وازدرائهم الكبير تجاهه».» التفت جرانت لينظر إلى الصورة التي رافقته لأيام وليالٍ عديدة. ثم قال: «أتعرِف، مع كل نجاحاته ومع منصب الكاردينال الذي تولَّاه، أظن أن مورتون كان هو الخاسر في تلك المعركة مع ريتشارد الثالث. رغم هزيمة ريتشارد والتشهير به طويلًا، كان هو من خرج بحالٍ أفضل من بين هذين الاثنين. كان محبوبًا في عهده.» فقال الفتى في رصانة: «هذا الرثاء ليس سيئًا.» فقال جرانت وهو يُغلِق كتاب أوليفانت للمرة الأخيرة: «لا. ليس رثاءً سيئًا على الإطلاق.» «ما كان رجالٌ كثيرون سيَرغبون في أفضل من ذلك.» ثم سلَّم الكتاب إلى مالكه. وقال: «قلةٌ فقط من استحقُّوا هذا القدر.» وحين غادَر كارادين، بدأ جرانت يُفرِز الأشياء الموجودة على طاولته؛ استعدادًا لعودته إلى المنزل في اليوم التالي. يمكن للروايات الأنيقة غير المقروءة أن تذهب إلى مكتبة المستشفى لتُدخِل السرور على صدورٍ أخرى غير صدره. لكنه سيحتفظ بالكتاب الذي به صور الجبال. وعليه أن يتذكَّر أن يُعيد إلى «الأمازونية» كتابَي التاريخ. بحثَ عنهما حتى يُعطيَها إياهما حين تأتيه بوجبة العشاء. وقرأ مرةً أخرى، للمرة الأولى منذ أن بدأ بحثه عن حقيقة ريتشارد، حكاية الكتاب المدرسي عن شرِّه وطغيانه. كانت القصة الشائنة ماثلةً أمامه بحروفٍ سوداء لا لَبْس فيها على صفحاتٍ بيضاء. من دون «لعل» أو «ربما». من دون تساؤلات أو تحفظات. وبينما كان على وشك أن يُغلِق أكبر الكتابَين وقعت عينه على فترة حكم الملك هنري السابع، فقرأ: «كانت سياسة آل تيودور المستقرة والمعتبرة هي أن يتخلَّصوا من كل مُنافسيهم على العرش، خاصةً أولئك الورثة من آل يورك الذين كانوا لا يزالون على قيد الحياة عند جلوس هنري السابع على العرش. وقد نجحوا في ذلك، رغم أن هنري الثامن كان قد تبقَّى له أن يتخلَّص من آخرهم.» حدَّق جرانت في هذا البيان الصريح. هذا القَبول المُسالِم بعمليات القتل الكثيرة. هذا الاعتراف البسيط بعملية إبادة أُسرة. لقد نُسِب لريتشارد الثالث القضاء على ابنَي أخيه، وكان اسمه مُرادفًا للشر. أما هنري السابع، الذي كانت «سياسته المستقرة والمعتبرة» هي القضاء على أُسرة بأكملها، فكان يُنظَر إليه باعتباره ملِكًا داهيةً بعيدَ النظر. ربما لم يكن محبوبًا جدًّا، لكنه كان ذا هدف ومُثابرًا بالإضافة إلى كونه ناجحًا جدًّا. هنا استسلم جرانت. كان التاريخ يُمثِّل له شيئًا لن يمكنه أن يفهمه أبدًا. كانت القيم لدى المؤرِّخين مختلفة اختلافًا كبيرًا وجَذريًّا عن أي قيم كان يعرفها، لدرجةِ أنه لم يكن يأمُل قطُّ أن يجتمع معهم على أي أرضية مشتركة. سيعود إلى سكوتلاند يارد، حيث كان القتلة قتلة، وما كان يسري على واحد كان يسري على قَدمِ المساواة على الآخر. وضع جرانت الكتابَين معًا بطريقةٍ مُنمَّقة، وحين أتت «الأمازونية» بالخوخ المفروم المطهو أعطاها إياهما مع كلمات شكر وعِرفان. كان يشعر بالامتنان فعلًا تجاه «الأمازونية». لولا أنها كانت تحتفظ بكتب دراستها لما شرع في طريقه الذي قاده إلى معرفته بريتشارد بلانتاجانت. بَدت «الأمازونية» مُرتبِكةً مُندهِشة من أسلوبه اللطيف، وتساءل جرانت في نفسه عما إن كان فظًّا للغاية أثناء مرضه حتى إنها لم تتوقَّع منه سوى الانتقاد. كانت هذه الفكرة مُهينة ومُخزية له. قالت: «سنفتقدك»، وبدا كأن عينَيها الكبيرتين كانتا على وَشْك أن تذرفا. أضافت: «لقد اعتدنا وجودَك هنا. بل إننا حتى اعتدنا ذاك.» وحرَّكت مِرفقها في اتجاه البورتريه. برزت في رأسه فكرة. فسألها: «هلا تفعلين شيئًا من أجلي؟» «بالطبع. أي شيء بوسعي فِعله.» «هلَّا تأخذين تلك الصورة باتجاه النافذة وتنظرين إليها في ضوءٍ جيد لنفس المدة التي تستغرقينها لقياس نبض أحدهم؟» «أجل بالطبع، إن كنت تريد مني أن أفعل ذلك. ولكن لماذا؟» «لا عليكِ. فقط افعلي هذا من أجلي. سأحسب لكِ الوقت.» فالتقطت الصورة وتحرَّكت نحو الضوء الآتي من النافذة. راح يَرقُب عقرب الثواني في ساعته. تركها مدة خمس وأربعين ثانية، ثم قال: «حسنًا؟» وإذ لم يجد منها إجابةً فورية، قال ثانيةً: «حسنًا؟» فقالت: «غريب.» وأضافت: «حين تنظر إليها قليلًا تجد أنه وجهٌ لطيف حقًّا، أليس كذلك؟»
|
{
"chapter": "الفصل السابع عشر",
"dataset_name": "hindawi",
"title": "ابنة الزمن",
"url": "https://www.hindawi.org/books/35759391/17/"
}
|
لقد حُبِست وأُبعِدت عن العالم؛ تلك المرأة ذات الجمال الفاضل الراسخ والشَّعر المُذهَّب. تساءل جرانت للمرة الأولى، لماذا كان مُذهَّبًا. لعله كان فِضيًّا مُذهَّبًا؛ كانت شقراء مُتألِّقة. كان من المُؤسِف أن كلمة «شقراء» تدنَّت إلى درجةِ أنها كادت تحمل مدلولًا مُحقَّرًا. لقد حُبِست لتقضيَ بقيَّة أيامها حيث لا يمكن أن تُمثِّل مشكلةً أو مصدرَ إزعاج لأحد. كانت تُرافِقها دوَّامة من المتاعب طَوال حياتها. كانت إنجلترا قد اهتزَّت بزواجها من إدوارد. وكانت هي الوسيلة المُستتِرة التي تسبَّبت في دمار ورويك. وتسبَّب لطفها مع عائلتها في إقامة فصيل جديد تمامًا في إنجلترا، ومنع ارتقاء ريتشارد إلى العرش في سلام. كان وقوع معركة بوسوورث أمرًا أدَّى إليه ضمنيًّا ذلك الاحتفال الصغير البسيط في براري نورثهامبتونشير حين أصبحت زوجة إدوارد. ولكن لم يبدُ أن أحدًا حمل نحوها ضغينة. فحتى ريتشارد الذي أخطأت في حقه سامحها على الفظائع المُترتِّبة على علاقاتها. لم يحمل أحدٌ نحوها ضغينة، حتى جاء هنري. لقد اختفت في غموض. إليزابيث وودفيل. الملِكة الأرملة التي كانت أم ملكة إنجلترا. أم أميرَي البرج، التي عاشت بحُرية وفي رغد في ظل حكم ريتشارد الثالث. كان ذلك خرقًا غريبًا في النمط، أليس كذلك؟ أبْعَد جرانت عن تفكيره مسألةَ تاريخ الأشخاص، وبدأ يُفكِّر بطريقةٍ شُرطية. كان الوقت قد حانَ كي يُرتِّب أوراق قضيَّته. كان الوقت قد حانَ كي ينظمها من أجل عرضها. من شأن هذا أن يُساعِد الشاب في كتابه، والأفضل من ذلك أنه سيُساعده في تصفية ذهنه. ستكون الأمور بالأبيض والأسود حسبما يراها. مدَّ جرانت يده نحو لوح الكتابة والقلم، وكتب مُدخلًا مُنمَّقًا: القضية: هي اختفاء صبيَّين (إدوارد أمير ويلز، وريتشارد دوق يورك) من برج لندن عام ١٤٨٥، أو في وقت مُقارِب لذلك. تساءل إن كان من الأفضل أن يُدوِّن أسماء المُشتبَه بهما في عمودَين مُتوازيَين أم واحدًا تِلو الآخر. ربما كان من الأفضل أن ينتهيَ من ريتشارد أولًا. لذا دوَّن عنوانًا مُنمَّقًا آخر، وبدأ في تلخيصه: السجل السابق: جيد. لديه سجلٌّ مُمتاز في الخدمة العامة، ويتمتع بسمعةٍ طيبة في حياته الخاصة. السمة البارزة كما تُشير إليها أفعاله هي المنطق السليم. كانت استفادته مُستبعَدة؛ إذ كان يوجد تسعة ورثة آخرين من آل يورك، من بينهم ثلاثة ذكور. لا يوجد اتهامٌ معاصر. استمرَّت أمُّ الطفلَين على علاقتها الودية به حتى وفاته، وكانت بناتها يَحضرن حفلات القصر. لم يُظهِر خوفًا من ورثة آل يورك الآخرين، فأنفق بسخاء على معيشتهم، وكفلَ لكلٍّ منهم وضعه الملكي. كان حقُّه في التاج لا يقبل الجدال؛ إذ صادَق عليه قانونٌ برلماني وتزكيةٌ عامة؛ فكان الصبيَّان خارج نطاق وراثة العرش، ولم يكونا يُمثِّلان خطرًا عليه. لو افتُرِض أنه كان قلِقًا من عدم الولاء، فإن الشخص الذي كان يتعيَّن عليه أن يتخلَّص منه لم يكن الصبيَّين، وإنما الشخص الذي كان سيَخلُفه على العرش، وهو ورويك الصغير. وهو الذي أعلن على الملأ أنه وريثه حين مات ولده. السجل السابق: مُغامر، عاش في بلاط ممالك أجنبية. ابن لأمٍّ طموحة. لا شيء سلبيَّ معلوم فيما يتعلق بحياته الخاصة. لم يتولَّ منصبًا أو عملًا عامًّا. الصفة البارزة كما تُشير أفعاله هي الدهاء. كان من المهم له كثيرًا ألا يعيش الصبيَّان. بإبطاله للقانون الذي يُقرُّ بعدم شرعية الصبيَّين، جعل الصبي الأكبر منهما ملِكًا على إنجلترا، والأصغر وريثه. في القانون الذي قدَّمه أمام البرلمان من أجل إدانة ريتشارد، اتهم ريتشارد بالطغيان والقسوة المعتادَين، لكنه لم يذكر مسألة الأميرَين الصغيرين. والاستنتاج الحتمي هنا أن الصبيَّين كانا على قيد الحياة، وكان مكانهما معروفًا. حُرِمت أمُّ الصبيَّين من دخلها، وأُودعت ديرًا للراهبات بعد مرور ثمانية عشر شهرًا من جلوسه على العرش. اتَّخذ تدابير عاجلة من أجل أن يأمن جانب ورثة العرش الآخرين، وأودعهم الحبس المؤقَّت حتى تمكَّن من التخلص منهم بأدنى قدرٍ من الفضيحة. لم يكن لديه أدنى حق في الجلوس على العرش. منذ وفاة ريتشارد، كان ورويك الصغير هو الملك «الشرعي» لإنجلترا. خطر لجرانت للمرة الأولى، وهو يكتب هذا، أنه كان بمقدور ريتشارد أن يُضفيَ الشرعية على ابنه غير الشرعي، جون، ويفرضه على الأمة. لم يكن ثَمة افتقار إلى سابقة في مثل هذا المسعى. في نهاية المطاف، كانت عشيرة بوفورت بأَسرِها (بما في ذلك أمُّ هنري) تنحدر، ليس من اتحادٍ غير شرعي وحسب، وإنما من سِفاحٍ مُزدوج. لم يكن يُوجَد ما يمنع ريتشارد من جعل ذلك الصبي، «النَّشِط الحسن التصرُّف» الذي كان يعيش في رفاهة في منزله، مُستحقًّا شرعيًّا للعرش. كان من المُؤكَّد بناءً على تدابير ريتشارد أن هذا المسار لم يكن قد تبادر إلى ذهنه. كان قد عيَّن ابن أخيه وريثًا له. كان المنطق السليم هو السمة الغالبة عليه حتى في أشد أوقات حزنه. المنطق السليم والمشاعر الأسرية. لم يكن ابنه غير الشرعي ليجلس على كرسي آل بلانتاجانت بغضِّ النظر عن مدى نشاطه وحُسن تصرُّفه ما دام ابن أخيه موجودًا، ويمكن له أن يشغل الكرسي. كان من اللافت للنظر كيف مدى تَغلغُل هذا الجو الأُسري في الحكاية بأكملها. من رحلات سيسيلي بصحبة زوجها، وحتى اعتراف ابنها الطوعي بابن أخيه جورج وريثًا له. وخطرَ بباله للمرة الأولى أيضًا وبقوةٍ كبيرة كيف أن هذا الجو الأُسري قد أضفى القوة على حُجة براءة ريتشارد. إن الصبيَّين اللذين من المُفترَض أنَّ ريتشارد قتلهما كما لو كان يقتل مُهرَين توءمًا كانا ابنَي إدوارد، كانا طفلَين لا بد أنه عرَفهما معرفةً شخصية وجيِّدة. أما هنري، على الجانب الآخر، فكان الصبيَّان لا يُمثِّلان له إلا رمزَين. عقبتَين في طريقه. ربما حتى لم تكن عيناه قد وقعت عليهما. وبغضِّ النظر عن جميع المسائل المتعلقة بالشخصية، فإن الاختيار بين هذين الرجلين باعتبارهما مُشتبَهًا بهما قد يتقرَّر على هذا الأساس وحده تقريبًا. كان من المُهدِّئ للذهن تمامًا أن يرى القضية مُنظَّمة ومُرتَّبة على هيئة «أ» و«ب» و«ج». لم يُلاحظ من قبلُ كيف أنَّ سلوك هنري كان مُثيرًا للرِّيبة والشك بصورةٍ مُضاعَفة حيالَ قانون اللقب الملكي. وإن كانت مطالبة ريتشارد بالعرش عبثية كما أصرَّ هنري، فمن المُؤكَّد أن التصرف البديهي كان إعادة قراءة القانون على العامة وإثبات زيفه. لكن هنري لم يفعل أي شيء من هذا القبيل. بل كابَد عناءً لا مُتناهيًا من أجل محو أي ذكرى لذلك القانون. كانت النتيجة النهائية محسومة، وهي أن حق ريتشارد في العرش كما هو مُبيَّن في قانون اللقب الملكي كان لا جدال فيه.
|
{
"chapter": "الفصل السادس عشر",
"dataset_name": "hindawi",
"title": "ابنة الزمن",
"url": "https://www.hindawi.org/books/35759391/16/"
}
|
"في ذلك الوقت الذي كانت فيه حكاية الحمامة قد استولت علي(...TRUNCATED) | {"chapter":"الحمامة","dataset_name":"hindawi","title":"هوس العمق: وقصص أخرى",(...TRUNCATED) |
"بعد اختفاء علوان أغرق في وحدةٍ مُطلَقة. حزني عميق، وحز(...TRUNCATED) | {"chapter":"محتشمي زايد","dataset_name":"hindawi","title":"يوم قُتل الزعيم","(...TRUNCATED) |
"توقف قلبُ مارجريت المتألم تمامًا. لم تسمع الرجال المتر(...TRUNCATED) | {"chapter":"المركب الشراعي","dataset_name":"hindawi","title":"سكارليت بيمبر(...TRUNCATED) |
"ما حدث أن جرانت لم يكن قد قام من مَرقده حين جاء كارادين(...TRUNCATED) | {"chapter":"الفصل الرابع عشر","dataset_name":"hindawi","title":"ابنة الزمن","(...TRUNCATED) |
"قال كارادين حين دخل عليه بعد بضعة أيام، وهو في غاية الب(...TRUNCATED) | {"chapter":"الفصل الخامس عشر","dataset_name":"hindawi","title":"ابنة الزمن","(...TRUNCATED) |
End of preview. Expand
in Data Studio
No dataset card yet
- Downloads last month
- 8